تطور الفكر التنظيمي الفتحوي
بعد ان استعرضنا موضوع تطور الفكر السياسي الفتحوي خلال مرحلة التأسيس مروراً بمرحلة الانطلاقة وحتى نهاية العام 1970. وجدنا ضرورة التداخل بين الفكر وتطوره وبين حالة تجسيده ماديا من خلال عملية التنظيم الفتحوي ونظرية العمل التنظيمي الفتحوي. وقد مرت هذه العملية بظروف وملابسات اقتضتها حالة العمل السري ومشقة العملين.
ورأينا قبل الدخول في تفاصيل البدايات التنظيمية لحركة فتح على اساس الفكر الذي طرحه بيان حركتنا والتنظيم الذي حدده هذا البناء الثوري في نهاية الخمسينات، ان نبدأ باستعراض نظري لمفهوم العلاقة بين الفكر والتنظيم كما عبرت عنها الافكار التي تبنتها حركة فتح تحت عنوان الفكر والتنظيم.. وعنوان التنظيم في الحركات الثورية.
لم يسجل التاريخ حتى الان، ان مجموعة من البشر قامت بتنظيم نفسها دونما هدف تسعى لتحقيقه. ولم يسجل التاريخ، ان بناء تنظيم ما قد كان هدفا في حد ذاته. وان ما يسجله التاريخ هو ان كل التنظيمات بأشكالها المختلفة كانت وسائل وادوات لتحقيق اهداف محددة. وقد يبرز عبر مسيرة التنظيم لتحقيق الهدف، من يعطون اهتماماً اكبر لمسألة التنظيم، ويجاهدون من اجل الفصل ميكانيكياً بينها وبين النظرية، التي من اركانها الهدف المنوي تحقيقه. وهذا الاهتمام البارز الذي يغرق في القضايا التنظيمية الشكلية، والذي لا يخدم بأي صورة في مجال الممارسة العملية، هو الذي ولد النظرة تجاه هذا الاهتمام الزائد، ونعتها بأنها التنظيم من اجل التنظيم. وحقيقة هذا الوضع، هو انه انحراف عن النظرية التنظيمية، التي هي وليدة النظرية الثورية، تماماً كما ان اهمال المسألة التنظيمية وايلائها مرتبة ثانوية من الاهتمام، هو ايضاً انحراف عن النظرية الثورية.
ان بعض الاشكال البدائية للتنظيم، والتي سادت في فترات تاريخية متفاوتة، وبنيت على قواعد متوازنة. كانت تستهدف في حقيقتها تأمين مصلحة مشتركة تفرضها طبيعة الظروف. فالقبلية والعشائرية، كانتا حتى فترة وجيزة تشكلان الروابط، التي بها يجد الفرد نفسه ملتحماً بالجماعة، واقفاً الى جانبها مؤازراً في السراء والضراء، كما انه يجد الجماعة تدعمه وتقف الى جانبه في كل الظروف. هذا الشعور بالانتماء والالتزام بالمجموعة، كانت تفرضه طبيعة مصلحة الفرد من جهة ومصلحة المجموعة من جهة اخرى.
ولقد قامت اشكال مختلفة من التنظيمات، التي عملت من اجل تحقيق هدف ما. ويتدرج هذا الهدف من الاستيلاء على المال عن طريق السرقة في حالة تنظيم عصابات اللصوص وقطاع الطرق والقراصنة، الى الاستيلاء على السلطة في حالات التنظيمات السياسية. واذا كانت القاعدة السائدة، التي يجمع عليها تنظيم القراصنة هي الاقرار للزعيم بالقيادة المطلقة، فان التنظيمات السياسية تتفاوت فيها هذه القاعدة بين تحقيق الشكل القرصاني عندما يسود التنظيم مبدأ المركزية المطلقة والاستبدادية الفردية، كما هي الحالة في التنظيمات الفاشية، الى تحقيق الشكل المشاعي الفوضوي عندما يسود مبدأ الديمقراطية المطلقة والليبرالية والفوضوية، الى تحقيق الشكل الثوري الذي تكون فيه المركزية الديمقراطية هي المبدأ الرئيسي للتنظيم.
تقوم التنظيمات السياسية دائماً على اسس نظرية قد تكون عملية متكاملة او غيبية مبتورة. ويعود ذلك الى طبيعة المنهج، الذي على اساسه تستنبط النظرية.. وصحة النظرية لا تتوقف على تحديدها الصحيح للهدف وانما على تحديدها الصحيح للاسلوب، الذي به ستصل الى تحقيق الهدف. ولا يمكن تحديد الاسلوب الصحيح الا اذا حددت المبادئ والمنطلقات النظرية تحديداً صحيحاً.
وليس غريباً ان نجد مجموعة من التنظيمات السياسية في المجتمع الواحد تسعى لتحقيق هدف واحد، ولكن لكل من هذه التنظيمات اسلوبه الخاص لتحقيق الهدف. ويرجع هذا التباين في اختيار الاسلوب الى حقيقة التباين في مناهج التحليل المستخدمة لتحليل الواقع وتحديد المنطلقات والمبادئ الاساسية للتنظيم السياسي، والتي تشكل ركيزة اساسية من ركائز النظرية السياسية. فاذا ما اعتمد المنهج في نظرته الى الواقع وتحليله على المنطق الصوري في المعرفة، فانه يرى الواقع من بعض جوانبه وفي حالة السكون في الزمان والمكان. كما انه لا ينفذ الى جوهر المشكلة، وانما يكتفي بعكس ظواهر الواقع. وبما ان مهمة التنظيم السياسي هي حل التناقضات الموجودة في الواقع، فان المنطق الصوري يحاول ان يضع حلاً للتناقضات الصورية، والتي ليست سوى جزء من تناقضات الواقع تتحدد نتيجة عدم الشمولية والاستطراد في التفكير. ولهذا نرى هذه التنظيمات السياسية، وان كانت قد اصابت في اجابتها على سؤال ماذا نريد؟.. فانها تخطئ في تحديد المنطلق، في تحديد من نحن؟ من هم اصدقاؤنا؟ من هم اعداؤنا؟.. الخ. الخطأ في تحديد المنطلق يقود حتماً الى الخطأ في اختيار الاسلوب، في تحديد كيف نحقق ما نريد؟ وكل ما تقدمه هذه التنظيمات السياسية في مسيرة النضال هو وضع العراقيل امام التوجه العلمي نحو الحقيقة، نحو تحديد التناقضات الموضوعية ووضع الحل الصحيح لها.
ولا يمكن تحديد التناقضات الموضوعية في الواقع المحدد، الا اذا كانت النظرة لهذا الواقع تتسم بالشمولية ولا تقف عند مجرد عكس جانب من الاشياء. وهذا ما يميز المنطق الجدلي عن المنطق الصوري. والى جانب الشمولية، فان المنطق الجدلي لا ينظر الى الاشياء في حالة الثبات والسكون، وانما يأخذها في مسيرتها التطورية، متابعة طبيعة التناقضات التي كانت فيها، والتي لا تزال، والتي تنشأ فيها من جديد. وقوانين الجدل تتجاوز النظرة المحددة لقوانين المنطق الصوري وافقه الضيق لتشتمل على وجهة نظر اوسع واعمق عن العالم.
وهذه النظرة الشمولية التطورية للمنهج القائم على اساس المنطق الجدلي تكتمل بتحديدها نقاط التوازن الجدلي بين الاشياء، وتحولها بالتراكم الكمي الى نوعيات جديدة وما يتبع ذلك من نفي الواقع لما كان، ونفي المستقبل لما هو كائن، وهكذا. ان تطبيق قوانين الجدل على دراسة التفكير، يخلق كل الظروف للنفاذ الى جوهره. فالمنطق الجدلي يكشف عن جدل المعرفة، أي عن قوانين. تطورهما بما في ذلك تطور اشكال التفكير. وهذا يعني ان المنطق المذكور هو عبارة عن تعاليم عميقة وشاملة عن تطور المعارف الانسانية بصفتها انعكاس لتطور العالم المادي. وهكذا يبدو واضحاً الفرق بين تحديد المنطلق، ومن ثم الاسلوب على اساس المنطق الصوري، وبين تحديدهما على اساس المنطق الجدلي والمنطق والاسلوب يحدد النظرية السياسية..
الاستراتيجية والتنظيم
ان التحرك من حيث نحن الى حيث نريد، من المنطلق الى الهدف يتم عبر الاسلوب المحدد. وهذا الثالوث المشكل للنظرية لا يضعها موضع التنفيذ الا بالممارسة. ولا تتم هذه الممارسة الا اذا تمت ترجمة الفكر.. (النظرية) الى حالة مادية مجسدة بالانسان. هذه الحالة المادية للفكر النظري.. والتي تحمله من اجل تحقيق ذاته هي التنظيم. ان تبنى مجموعة من البشر لفكر النظرية وممارستهم من اجل تجسيدها ماديا، يتطلب وجود قاعدة تنظيمية تربط أفراد التنظيم بعضهم ببعض، وتحدد طبيعة علاقاتهم، وتضع الحول لكل ما ينشأ عن هذه العلاقات من تعارضات. هذه القاعدة التنظيمية هي أساس النظرية التنظيمية التي لا يمكن فصلها بأي شكل من الاشكال عن النظرية السياسية... عن الفكر.. عن الاستراتيجية السياسية.. وهذا يعني ضرورة التلاؤم الاستراتيجي بين الفكر والتنظيم. والذي يحدد الاستراتيجية التنظيمية والمبدأ الرئيسي للبنية التنظيمية هو نظرة الفكر الى الجماهير، الى امكانياتها، وطاقاتها، ودورها التاريخي في
التغيير والتطوير اولا، ثم الاسلوب الذي يحدده الفكر ليحقق الاهداف ثانيا.
الفكر والجماهير:
ليس من السهل وضع حد فاصل بين نظرة وأخرى الى الجماهير والى دورها قبل ان تحدد الفواصل بين النظرات المتفاوتة في تحديد من هي الجماهير واي الفئات والطبقات تضم. وحيث ان للجماهير مفهوما مختلفا لدى الافكار المختلفة، فان الانسجام بين الفكر ونظرته الى الجماهير (تحديد من هي وما هو دورها) يعطي نظرية تنظيمية منسجمة، وعلى اساس مبدأ رئيسي منسجم مع الفكر. فعندما يحدد فكر ما ان الجماهير تعني كل الشعب او كل الامة دون تحديد لطبيعة المرحلة التاريخية والتطورية التي يمر بها الشعب او الامة، فان هذا يعني ان السلطة هي في الحقيقة في يد جزء من الجماهير، في يد جزء من الشعب. وان الطموح يتلخص في تمثيل اوسع للشعب وللجماهير داخل السلطة. وهكذا خطوة خطوة تزداد المشاركة الشعبية لتصل في النهاية الى تحقيق حكم الشعب...
الفكر والجماهير:
ليس من السهل وضع حد فاصل بين نظرة وأخرى الى الجماهير والى دورها قبل ان تحدد الفواصل بين النظرات المتفاوتة في تحديد من هي الجماهير واي الفئات والطبقات تضم. وحيث ان للجماهير مفهوما مختلفا لدى الافكار المختلفة، فان الانسجام بين الفكر ونظرته الى الجماهير (تحديد من هي وما هو دورها) يعطي نظرية تنظيمية منسجمة، وعلى اساس مبدأ رئيسي منسجم مع الفكر. فعندما يحدد فكر ما ان الجماهير تعني كل الشعب او كل الامة دون تحديد لطبيعة المرحلة التاريخية والتطورية التي يمر بها الشعب او الامة، فان هذا يعني ان السلطة هي في الحقيقة في يد جزء من الجماهير، في يد جزء من الشعب. وان الطموح يتلخص في تمثيل اوسع للشعب وللجماهير داخل السلطة. وهكذا خطوة خطوة تزداد المشاركة الشعبية لتصل في النهاية الى تحقيق حكم الشعب...
تحقيق الديمقراطية.
وعندما يحدد فكر آخر ان الجماهير تعني ذاك الرعاع او السواد او الغوغاء او القطيع الذي لا شأن له، والذي كل مهمته خدمة السادة النبلاء والالهة البشرية، فان هذا الفكر يرفض بصورة الجزم امكانية ان تشارك الجماهير في السلطة، وينفي امكانية الاستفادة منها لغير العمل اليدوي الآلي.. عمل العبيد لخدمة السادة.
ان المنطق الصوري يمكن ان يضعنا امام العديد من النظرات المجزوءة الى الجماهير والى تحديد من هي الجماهير الشعبية، وبالتالي تظل اسرى عدم الشمولية والجمود. وللخروج من هذا الاسر نجد لزاما علينا ان ننطلق الى الافق الارحب والاكثر تطورا في تحديده للجماهير الشعبية في المراحل التاريخية المختلفة وعبر الظروف الطارئة. فبالنسبة للمجتمع المشاعي البدائي لم يكن الفرق بين اصطلاح (السكان) و (الشعب) ذا أهمية جوهرية.
وعندما يحدد فكر آخر ان الجماهير تعني ذاك الرعاع او السواد او الغوغاء او القطيع الذي لا شأن له، والذي كل مهمته خدمة السادة النبلاء والالهة البشرية، فان هذا الفكر يرفض بصورة الجزم امكانية ان تشارك الجماهير في السلطة، وينفي امكانية الاستفادة منها لغير العمل اليدوي الآلي.. عمل العبيد لخدمة السادة.
ان المنطق الصوري يمكن ان يضعنا امام العديد من النظرات المجزوءة الى الجماهير والى تحديد من هي الجماهير الشعبية، وبالتالي تظل اسرى عدم الشمولية والجمود. وللخروج من هذا الاسر نجد لزاما علينا ان ننطلق الى الافق الارحب والاكثر تطورا في تحديده للجماهير الشعبية في المراحل التاريخية المختلفة وعبر الظروف الطارئة. فبالنسبة للمجتمع المشاعي البدائي لم يكن الفرق بين اصطلاح (السكان) و (الشعب) ذا أهمية جوهرية.
اما في المجتمعات المتطاحنة فان هذا الفرق هام للغاية، لان هناك قوة تزاد عمقا بين الجماعات المسيطرة وجماهير الشعب، وعندما يلغى استغلال الانسان للانسان في المجتمع الاشتراكي يعود مفهوم الشعب ليغطي ثانية كل السكان وكل الجماعات الاجتماعية.
وعبر الانتقال من مرحلة المجتمع المشاعي البدائي الى مرحلة المجتمع الاشتراكي، فان تحديد مفهوم الجماهير الشعبية هو الذي سيحدد مدى صحة نظرة الفكر للواقع وبالتالي قدرته على تحديد المنطق الصحيح في كل مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي. ومن هنا فإن تحديد مفهوم الجماهير الشعبية في المجتمع الاقطاعي لا يتطابق مع تحديده في المجتمع الرأسمالي او المجتمع الطبقي. وهذه التحديدات تختلف عندما يعاني الوطن من كابوس استعماري امبريالي او استعماري استيطاني، كما ويختلف عندما يواجه المجتمع حالة اقتلاع ونفي وطرد من الوطن.
واذا كانت مهمة الفكر في مرحلة من المراحل هي الدفع لانتقالها عبر الممارسة الى مرحلة ارقى في سجل التطور البشري، فان الفكر الذي يتجاهل طبيعة الواقع ويعمل على الانتقال بالطفرة من مرحلة اجتماعية بدائية الى مرحلة متطورة دون المرور بمستلزمات التطور الاجتماعي والمراحل الوسيطة، هذا الفكر يكون قد أخطأ اول ما أخطأ في تحديده لمفهوم الجماهير الشعبية في مرحلة الواقع. فالمجتمع الاقطاعي، الذي يسود فيه أي من الثالوث الاقطاعي، الاقتصادي، السياسي او الديني او كلها مجتمعة ويتحكم بكافة فئات الشعب الاخرى التي هي خارج السلطة وتحت نير استغلالها، هذه الفئات .
وعبر الانتقال من مرحلة المجتمع المشاعي البدائي الى مرحلة المجتمع الاشتراكي، فان تحديد مفهوم الجماهير الشعبية هو الذي سيحدد مدى صحة نظرة الفكر للواقع وبالتالي قدرته على تحديد المنطق الصحيح في كل مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي. ومن هنا فإن تحديد مفهوم الجماهير الشعبية في المجتمع الاقطاعي لا يتطابق مع تحديده في المجتمع الرأسمالي او المجتمع الطبقي. وهذه التحديدات تختلف عندما يعاني الوطن من كابوس استعماري امبريالي او استعماري استيطاني، كما ويختلف عندما يواجه المجتمع حالة اقتلاع ونفي وطرد من الوطن.
واذا كانت مهمة الفكر في مرحلة من المراحل هي الدفع لانتقالها عبر الممارسة الى مرحلة ارقى في سجل التطور البشري، فان الفكر الذي يتجاهل طبيعة الواقع ويعمل على الانتقال بالطفرة من مرحلة اجتماعية بدائية الى مرحلة متطورة دون المرور بمستلزمات التطور الاجتماعي والمراحل الوسيطة، هذا الفكر يكون قد أخطأ اول ما أخطأ في تحديده لمفهوم الجماهير الشعبية في مرحلة الواقع. فالمجتمع الاقطاعي، الذي يسود فيه أي من الثالوث الاقطاعي، الاقتصادي، السياسي او الديني او كلها مجتمعة ويتحكم بكافة فئات الشعب الاخرى التي هي خارج السلطة وتحت نير استغلالها، هذه الفئات .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق